فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أبو داود: طرقة كلها واهية- يعني حديث ابن عباس وفي الباب عن ابن عمر أخرجه ابن عدي، وعن ابي هريرة أخرجه الطبراني في الأوسط، وهما واهيان ايضًا، وكره مجاهد وطاوس ومالك الصلاة إلى النائم خشية ان يبدو منه ما يلهى المصلي عن صلاته وظاهر تصرف المصنف أن عدم الكراهة حيث يحصل الأمن من ذلك- انتهى كلام ابن حجر في فتح الباري.
قال مقيده- عفا الله عنه: الذي يظهر- والله تعالى أعلم- أنه لم يثبت نص خاص في النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث، ولكن ذلك لا ينافي أخذ الكراهة من عموم نصوص أخر، كتعليل كراهة الصلاة إلى النائم بما ذكر من خشية أن يبدو منه ما يلهي المصلي عن صلاته، لأن النائم لا يدري عن نفسه.
وكتلعليل كراهة الصلاة إلى المتحدث بأن الحديث يشوش على المصلي في صلاته، والله تعالى أعلم.
وأما كراهة الصلاة في بطن الوادي فيستدل لها بما جاء في بعض روايات حديث زيد بن جبيرة المتقدم في المواضع التي نهى عن الصلاة فيها «وبطن الوادي» بدل «المقبرة» قال الشوكاني قال الحافظ: وهي زيادة باطلة لا تعرف.
وقال بعض العلماء: كراهة الصلاة في بطن الوادي مختصة بالوادي الذي حضر فيه الشيطان النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فناموا عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، وأمرهم النَّبي صلى الله عليه وسلم بأن يتأخروا عن ذلك الموضع الذي حضرهم فيه الشيطان.
ويجاب عن هذا: بأن الشيطان يمكن أن يكون ذهب عن الوادي، والله تعالى أعلم.
وأما النهي عن الصلاة في مسجد الضرار فدليله قوله تعالى: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108]، وقوله جل وعلا: {والذين اتخذوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} [التوبة: 107]. الاية، وقوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 109-110]. الآية. فهذه الآيات تدل على التباعد عن موضع ذلك المسجد وعدم القيام فيه كما هو ظاهر.
وأما كراهة الصلاة إلى التنور فلما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن محمد بن سرين: أنه كره الصلاة إلى التنور، وقال: هو بيت نار.
وظاهر صنيع البخاري أن الصلاة إلى التنور عنده غير مكروه، وأن عرض النار على النَّبي صلى الله عليه وسلم في صلاته يدل على عدم الكراهة. قال البخاري في صحيحه باب من صلى وقدامه تنور أو نار، أو شيء مما يعبد فأراد به الله وقال الزهري: أخبرني أنس قال قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:
«عرضت عليَّ النَّار وأنا أصلَّي» حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن زيد بن اسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس قال: انخسفت الشمس فصلَّ رسول الله صلى الله عيله وسلم ثمَّ قال: «رأيت النَّار فلم أرى منظرًا كاليوم قطُّ أفظع» اهـ.
وعرض النار عليه صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته دليل على عدم الكراهة، لأنه لم يقطع.
وقد دلت بعض الروايات الثابتة في الصحيح على أن النار عرضت عليه من جهة ومن جهة لا من جهة اليمين ولا الشمال، ففي بعض الروايات الصحيحة أنهم قالوا به بعد أن انصرف: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئًا في مقامط، ثم رأيناك تكعكعت- أي تأخرت- إلى الخلف؟ وفي جوابه: أن ذلك بسب كونه أرى النار.. إلخ.
فهذا هو الحاصل كلام العلماء في الأماكن التي ورد نهي عن الصلاة فيها، التي لها مناسبة بآية الحجر التي نحن بصددها- والعلم عند الله تعالى.
{وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)}
ذكر تعالى في هذا الآية الكريمة أنه آتى أصحاب الحجر- وهم ثمود- آياته فكانوا عنها معرضين، والإعراض: الصدود عن الشيء وعدم الالتفات إليه. كأنه مشتق من العرض- بالضم- وهو الجانب. لأن المعرض لا يولي وجهه بل يثني عطفه ملتفتًا صادًا.
ولم يبين جل وعلا هنا شيئًا من تلك الآيات التي آتاهم، ولا كيفية إعراضهم عنها، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر. فين أن من أعظم الآيات التي آتاهم: تلك الناقة اتي أخرجها الله لهم. بل قال بعض العلماء: إن في الناقة المذكورة آيات جمة: كخروجها عشراء، وبراء، جوفاء من صخر صماء، وسرعة ولادتها عند خروجها، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعًا، وكثرة شربها. كما قال تعالى: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155]، وقال: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} [القمر: 28].
فإذا علمت ذلك فاعلم أن مما يبين قوله هنا: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} قوله: {فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين قَالَ هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 154-155]، وقوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسوء} [الأعراف: 73]. الآية، وقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59]. الآية، وقوله: {إِنَّا مُرْسِلُو الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ فارتقبهم واصطبر} [القمر: 27]، وقوله: {وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64]. إلى غير ذلك من الآيات.
وبين إعراض قوم صالح عن تلك الآيات في مواضع كثيرة. كقوله: {فَعَقَرُواْ الناقة وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ المرسلين} [الأعراف: 77]، وقوله: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]. الآية، وقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ إِذِ انبعث أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 11-14]. الآية، وقوله: {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} [القمر: 29]، وقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} [الإسراء: 59]، وقوله: {قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ} [الشعراء: 153-154]. الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)}
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الحجر وهو ثمود صالح كانوا آمنين في أوطانهم، وكانوا ينحتون الجبال بيوتًا.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا فَارِهِين} [الشعراء: 146-149]، وقوله تعالى: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتًا فاذكروا آلاءَ الله} [الأعراف: 74]. الآية، وقوله: {وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد} [الفجر: 9]. أي قطعوا الصخر بنحته بيوتًا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)}
وأصحاب الحِجْر هم قوم صالح، وكانت المنطقة التي يقيمون فيها كلها من الحجارة؛ ولا يزال مُقَامهم معروفًا في المسافة بين خيبر وتبوك، وقال فيهم الحق سبحانه: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128-129].
وهم قد كذّبوا نبيهم صالح وكان تكذيبهم له يتضمن تكذيب كل الرسل، ذلك أن الرسل يتواردون على وحدانية الله، ويتفقون في الأحكام العامة الشاملة، ولا يختلف الأنبياء إلا في الجزئيات المناسبة لكل بيئة من البيئات التي يعيشون فيها.
فبيئة: تعبد الأصنام، فيُثبِت لهم نبيُّهم أن الأصنام لا تستحق أن تُعبد.
وبيئة أخرى: تُطفِّف الكيْل والميزان؛ فيأتي رسولهم بما ينهاهم عن ذلك.
وبيئة ثالثة: ترتكب الفواحش فيُحذِّرهم نبيهم من تلك الفواحش.
وهكذا اختلف الرسل في الجزئيات المناسبة لكل بيئة؛ لكنهم لم يختلفوا في المنهج الكُليّ الخاص بالتوحيد والمنهج، وقد قال الحق سبحانه عن قوم صالح أنهم كذَّبوا المُرْسلين؛ بمعنى أنهم كذّبوا صالحًا فيما جاء به من دعوة التوحيد التي جاء بها كل الرسل.
ويقول الحق سبحانه عنهم من بعد ذلك: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)}
وهنا يُوجِز الحق- سبحانه وتعالى- ما أرسل به نبيهم صالح من آيات تدعوهم إلى التوحيد بالله، وصِدْق بلاغ صالح عليه السلام الذي تمثَّل في الناقة، التي حذَّرهم صالحَ أنْ يقربوها بسوء كَيْلا يأخذهم العذاب الأليم.
لكنهم كذَّبوا وأعرضوا عنه، ولم يلتفتوا إلى الآيات التي خلقها الحق سبحانه في الكون من ليل ونهار، وشمس وقمر، واختلاف الألْسُنِ والألوان بين البشر.
ونعلم أن الآيات تأتي دائمًا بمعنى المُعْجزات الدَّالة على صدْق الرسول، أو: آيات الكون، أو: آيات المنهج المُبلَّغ عن الله، تكون آية الرسول من هؤلاء من نوع ما نبَغ فيه القوم المُرْسَل إليهم؛ لكنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثلها.
وعادةً ما تثير هذه الآية خاصيَّة التحدِّي الموجودة في الإنسان، ولكن أحدًا من قوم الرسل أيّ رسول لا يُفلِح في أن يأتي بمثل آية الرسول المرسل إليهم.
ويقول الحق سبحانه عن قوم صالح: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الحجر: 81].
أي: تكبَّروا وأعرضوا عن المنهج الذي جاءهم به صَالح، والإعراض هو أنْ تُعطِي الشيء عَرْضك بأن تبتعدَ عنه ولا تُقبِل عليه، ولو أنك أقبلتَ عليه لَوجدتَ فيه الخير لك.
وأنت حين تُقبِل على آيات الله ستجد أنها تدعوك للتفكُّر، فتؤمن أن لها خالقًا فتلتزم بتعاليم المنهج الذي جاء به الرسول.
وأنت حين تُفكِّر في الحكمة من الطاعة ستجد أنها تُريحك من قلق الاعتماد على أحد غير خالقك، لكن لو أخذتَ المسائل بسطحية؛ فلن تنتهي إلى الإيمان.
ولذلك نجده سبحانه يقول في موقع آخر من القرآن الكريم: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
وفي هذا تكليفٌ للمؤمن كُل مؤمن أن يُمعِنَ النظر في آيات الكون لعلَّه يستنبط منها ما يفيد غيره.
وأنت لو نظرتَ إلى كل المُخْترعات التي في الكون لوجدتَّها نتيجةً للإقبال عليها من قِبَل عالم أراد أنْ يكتشفَ فيها ما يُريح غيره به.
والمثل في اكتشاف قُوَّة البخار التي بدأ بها عَصْر من الطاقة واختراع المُعدات التي تعمل بتلك الطاقة، وحرّك بها القطار والسفينة؛ مثلما سبقها إنسان آخر واخترع العجلة لِيُسهّل على البشر حَمْل الأثقال.
وإذا كان هذا في أمر الكَوْنيّات؛ فأنت أيضًا إذا تأملتَ آيات الأحكام في افعل ولا تفعل ستجدها تفيدُك في حياتك ومستقبلك، والمثَل على ذلك هو الزكاة؛ فأنت تدفع جزءً يسيرًا من عائد عملك لغيرك مِمَّنْ لا يَقْوَى على العمل، وستجد أن غيرك يعطيك إنْ حدث لك احتياج؛ ذلك أنك من الأغيار.
ويتابع الحق سبحانه قوله عن قوم صالح: {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ}.
وهنا يمتنُّ عليهم بأن منحهم حضارةً، ووهبهم مهارة البناء والتقدُّم في العمارة؛ وأخذوا في بناء بيوتهم في الأحجار، ومن الأحجار التي كانت توجد بالوادي الذي يقيمون فيه، وقطعوا تلك الأحجار بطريقة تُتيح لهم بناء البيوت والقُصور الآمنة من أغيار التقلُّبات الجوية وغيرها.
ونعلم أن مَنْ يعيش في خَيْمة يعاني من قِلَّة الأمن؛ أما مَنْ يبني بيته من الطوب اللَّبن؛ فهو اكثر أمْنًا مِمَّنْ في الخيمة، وإنْ كان أقلَّ أمانًا من الذي يبني بيته من الأسمنت المُسلَّح، وهكذا يكون أَمنْ النفس البشرية في سكنها واستقرارها من قوة الشيء الذي يحيطه.
وإذا كان قوم صالح قد أقاموا بيوتهم من الحجارة فهي بالتأكيد اكثر أَمْنًا من غيرهم، ونجد نبيهم صالحًا، وقد قال لهم ما أورده الحق سبحانه في كتابه الكريم: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتًا فاذكروا آلاءَ الله وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74].
ولكنهم طَغَوْا وبَغَوْا وأنكروا ما جاء به صالح- عليه السلام- فما كان من الحق سبحانه إلا أنْ أرسلَ عليهم صيحةً تأخذهم.
وقال الحق سبحانه: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة}.
وهم إذا كانوا قد اتخذوا من جبليّة الموقع أَمْنًا لهم؛ فقد جاءت الصيحة من الحق سبحانه لِتدكَّ فوق رؤوسهم ما صنعوا، وقد قال الحق سبحانه عنهم من قبل في سورة هود: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 67].
وقال سبحانه عنهم أيضًا: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78].
والرَّجْفة هي الزلزلة، والصَّيْحة هي بعض من توابع الزلزلة، ذلك أن الزلزلة تُحدِث تموجًا في الهواء يؤدي إلى حدوث أصوات قوية تعصف بمَنْ يسمعها.
وهم حسب قَوْل الحق سبحانه قد تمتَّعوا ثلاثة أيام قبل أنْ تأخذهم الصَّيْحة كَوَعْد نبيهم صالح عليه السلام لهم: {فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65].
ويقول الحق سبحانه عن حالهم بعد أنْ أخذتهم الصَّيْحة: {فَمَآ أغنى}.
وهكذا لم تنفعهم الحصون في حمايتهم من قدَر الله، ونعلم أن قدر الله أو عقابه لا يمكن أنْ يمنعه مانعٌ مهما كان؛ فهو القائل: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].
وهكذا لا يمكن أن يحميَ الإنسانُ نفسَه مما قَدَّره الله له، أو مِمَّا يشاء الحق أن يُنزِله على الإنسان كعقاب.
وسبحانه القائل: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154].
وهكذا خَرُّوا جميعًا في قاع الهلاك، ولم تَحْمِهِم حصونهم من العذاب الذي قدَّره سبحانه. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)}
يتضمن هذا الدرس نماذج من رحمة الله وعذابه، ممثلة في قصص إبراهيم وبشارته على الكبر بغلام عليم، ولوط ونجاته وأهله إلا امرأته من القوم الظالمين، وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر وما حل بهم من عذاب أليم.
هذا القصص يساق بعد مقدمة: {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} فيجيء بعضه مصداقًا لنبأ الرحمة، ويجيء بعضه مصداقًا لنبأ العذاب.. كذلك هو يرجع إلى مطالع السورة، فيصدق ما جاء فيها من نذير: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} فهذه نماذج من القرى المهلكة بعد النذر، حل بها جزاؤها بعد انقضاء الأجل، وكذلك يصدق هذا القصص ما جاء في مطالع السورة في شأن الملائكة حين يرسلون: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين} فتبدو السورة وحدة متناسقة، يظاهر بعضها بعضا، وذلك مع ما هو معلوم من أن السور لم تكن تنزل جملة إلا نادرا، وأن الآيات الواردة فيها لم تكن تنزل متتالية تواليها في المصحف، ولكن ترتيب هذه الآيات في السور ترتيب توقيفي، فلابد من حكمة في ترتيبها على هذا النسق، وقد كشفت لنا جوانب من هذه الحكمة حتى الآن في السور التي عرضناها في تماسك بنيان السور، واتحاد الجو والظلال في كل سورة، والعلم بعد ذلك لله. إنما هو اجتهاد، والله الموفق إلى الصواب.
{نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم}.
يجيء هذا الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذكر جزاء الغاوين وجزاء المتقين في سياق السورة، والمناسبة بينهما ظاهرة في السياق، ويقدم الله نبأ الغفران والرحمة على نبأ العذاب. جريًا على الأصل الذي ارتضت مشيئته. فقد كتب على نفسه الرحمة، وإنما يذكر العذاب وحده أحيانًا أو يقدم في النص لحكمة خاصة في السياق تقتضي إفراده بالذكر أو تقديمه.
ثم تجيء قصة إبراهيم مع الملائكة المرسلين إلى قوم لوط، وقد وردت هذه الحلقة من قصة إبراهيم وقصة لوط في مواضع متعددة بأشكال متنوعة، تناسب السياق الذي وردت فيه، ووردت قصة لوط وحده في مواضع أخرى.